قال تعالى :الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ

Monday, July 16, 2007

نطمئنكم على د/عصام

شهدت الجزء الثاني من الجلسة سقوط العالم المصري عصام حشيش مغشياً عليه من الإعياء
و الحمد لله هو الآن بخير
للإطلاع على تفاصيل الجلسة

Friday, July 6, 2007

نقلا عن مدونة لا تصالح

حزنت لنبأ مرض أستاذنا العزيز الدكتور عصام حشيش شفاه الله وعافاه وفك أسره هو ومن معه، فهذا الرجل هو أب لنا جميعا وقد كان لي الشرف أن كان استاذي في السنة الثالثة في كلية الهندسة، لم يشك منه أحد يوما، لم يعبس في وجهنا يوما كنت دائما تراه هادئا مبتسما، الجميع يحبه من أساتذة وطلاب وحتى العمال والفراشين، وهذه حقيقة عرفتها مؤخرا فعندما قامت دفعة السنة الرابعة بكلية الهندسة قسم الاتصالات بإعتصام وامتنعوا عن حضور المحاضرات أول أسبوع من الفصل الدراسي الثاني حبا في هذا الأب ووقوفا إلى جانب الحق -وقد شرفت بالانتماء إلى هذه الدفعة- وبرغم المضايقات الأمنية فوجئا بتضامن عدد كبير من أساتذة الكلية والمعيدين والعمال معنا فكان كل منهم يروي لنا حكاية مع الدكتور عصام ويحكي قصة عن شهامته وأخلاقه، فما كان من ذلك أن أن ازددنا تماسكا ومطالبة بالإفراج عنه،ومن عجائب وطرائف النظام المصري أن الدكتور كان قد حصل على لقب الأستاذ المثالي بالقسم منذ عامين فقط بل وقد حصل على جائزة الجامعة التشجيعية في العلوم الهندسية في نفس العام، ولم يكن مشغولا بغسيل الأموال أو الإعداد لقلب نظام الحكم، وياليته كان يمتلك عبارة أو أدخل السرطان إلى مصر ، فلربما كان حاله أفضل مما هو عليه الآن فنحن في عصر تمتلىء فيه السجون بالشرفاء، شفاك الله وعافاك يا أستاذنا العزيز وفك قيدك وأسرك وفرج عنك

Wednesday, July 4, 2007

الرحلة إلى المجهول



لم أكن أتصور يومًا أنني سوف أسجل وقائع هذه الأحداث التي مرت بي خلال شهر يونيو من عام 2007م داخل سجن
مزرعة طرة أو أنها سوف تجد طريقًا للنشر، ولكنني رأيت أن فيها من المعاني والدروس المستفادة ما يصلح أن يُشكِّل ملامح رسالة واضحة المعالم إلى كل من تشبث بأهداب الدنيا.

وكل مَن ينتابه الحزن على ما فاته فيها وكل مَن شغلته دنياه عن آخرته، وكل مَن ظلم وطغى وتجبر في هذه الحياة الفانية، وكل مَن ظن أنه متربع على كرسيه أبدًا، وكل مَن ظن أنه من الموت بعيد المنال وتلك الرسالة تؤكد أن الجدار الفاصل بين الموت والحياة بين القوة والضعف جدار هش رقيق يسهل عبوره أو اختراقه في لحظة من الزمن قد لا تزيد على لمح البصر لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرًا.

مقدمة الرحلة
لقد بحثت عن عنوان يليق بهذه الأحداث التي وقعت لي في تلك الفترة فلم أجد خيرًا من هذا العنوان؛ لأنها وقائع تمثل فعلاً رحلة إلى المجهول والغريب أن هذه الوقائع تندرج في إطار منظومة أكبر تشمل الأحداث الخاصة بالقضية رقم 2 لسنة 2007م عسكرية لتشكل بدورها رحلة أكبر إلى مجهول آخر ينطبق عليه ما ورد في القرآن الكريم على لسان السحرة مخاطبين فرعون قائلين ردًّا على تهديدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور: ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ﴾ (طه: من الآية 72) إنما تقضي هذه الحياة الدنيا؛ ولا عجبَ في ذلك فإن تلك الرحلة الكبرى قد حفلت بالكثير من الوقائع العجيبة والمفارقات الغريبة التي تصلح أن تكون منسوجةً في عالم الخيال، أو في كوكبٍ آخر وليست أحداثًا قد سقطت وتطايرت في أرض الواقع معبرة عن مدى الظلم الذي تعرَّضت له فئة من أفضل رموز هذه الأمة يشار لها بالبنان والتقدير والاحترام في محيطها الذي تتواجد فيه سواء كانوا أعضاء لهيئة التدريس بالجامعات أو رجالاً للأعمال والصناعات أو مهنيين قدموا خدمات جليلة لمجتمعهم الذي يعيشون فيه شهد بها القاصي والداني.

بداية الرحلة
لعل القارئ قد أصبح يتوق شوقًا أن يتعرف إلى معالم هذه الرحلة القصيرة إلى ذلك المجهول، وهي رحلة بدأت وقائعها في سجن مزرعة طرة؛ حيث غيَّبت أسواره تلك الرموز في إطار القضية رقم 2 لسنة 2007م عسكرية والتي عُرفت باسم قضية الشاطر وإخوانه، وحيث توالت الأحداث وتتابعت ابتداءً من القبض ثم العرض أمام نيابة أمن الدولة العليا ثم إفراج محكمة الجنايات الذي صدر ثم ما تلا ذلك من اعتقالٍ عقب صدور حكم الإفراج، بالإضافة إلى التحفظ على أموالنا وكأنَّ كل هذا لم يكن كافيًا لردع الشرفاء عن قولة الحق والوقوف أمام الباطل فصدر بعد ذلك قرار الإحالة إلى القضاء العسكري.

وتتوالى الأحداث فيصدر قرار آخر من المحكمة بالإفراج من الاعتقال ثم يتم رفض اعتراض الداخلية على هذا الحكم بحكم ثالث من المحكمة ليؤكد الإفراج الوجوبي الذي ضربت به وزارة الداخلية عرض الحائط، ومن ثَمَّ حدث التعجيل المريب لعقد أولى جلسات المحكمة العسكرية في أقل من 48 ساعةً وقبل اكتمال أوراق القضية، وشاءت إرادة الله أن يصدر القرار التاريخي للقضاء الإداري ببطلان قرار الإحالة للمحاكم العسكرية لهذه المجموعة على يد المستشار محمد الحسيني لترد الداخلية على ذلك، وكأننا في حرب ضروس بالاستشكال في دائرة غير مختصة للتهرب من تنفيذ الحكم ثم يتم الطعن على هذا الحكم أمام دائرة معينة في المحكمة الإدارية العليا معظم أفرادها منتدبون بالحكومة، وتصر هذه الدائرة انفرادها بنظر الطعن رغم الإجراءات التي اتخذت بردها مخالفة بذلك صريح القانون تلك هي الأجواء التي عشناها خلال هذه الفترة.

ولم يكن لنا في هذه الظروف من حيلةٍ إزاء تلك الإجراءات الظالمة المستبدة سوى اللجوء إلى الله وحده نشكو إليه ظلم العبيد للعباد، نشكو الطغيان والفساد الذي أصبح سمتًا ومعلمًا من معالم الظالمين، وفي ظل هذا المناخ اتخذت قرارًا بالإكثار من الصوم، وفرض نظام فيه شيء من الصرامة على الطعام.

وقد كنت مصابًا منذ فترة بالذبحة الصدرية، وبطبيعة الحال كنت أداوم على أدوية خاصةً للعلاج منها الأسبرين، ويبدو أن الصيام مع نظام الأكل الجديد قد تفاعل مع الأسبرين منتجًا قرحة بالمعدة ترتب عليها نزيفٌ دموي لبضعة أيام أدَّى إلى فقدان كمية كبيرة من الدماء وانخفاض نسبة الهيموجلوبين؛ مما هدد بحدوث غيبوبةٍ لي وفقداني للوعي ثم على أثر ذلك نقلي بسرعة إلى مستشفى قصر العيني لعمل منظار يوم الخميس 31/5/2007م؛ حيث تم بالفعل اكتشاف قرحتين بالمعدة، وصدرت أوامر الأطباء بالكف عن تناول الأسبرين حتى يتم علاج القرحة أولاً مع الكف عن الصيام والتخفف من القيود على الطعام.

الرحلة إلى المجهول


توقفتُ عن تناول الأسبرين كما طلب الأطباء، وتم تعديل نظام الطعام، وسارت الأمور على ما يُرام لمدة أسبوعين حتى كان يوم الخميس مساءً الموافق 14/6/2007م لاحظتُ أن العرق الكثير يُفرز من جسمي لأقل مجهودٍ يُبذل.

وأويت إلى الفراش في ذلك اليوم حوالي الواحدة والنصف من صباح يوم الجمعة، و لم أعرف ما الذي حدث بالضبط بعد نومي ولكني فوجئتُ كما لو كان زلزالاً داخليًّا شديدًا قد ضرب جسمي استيقظتُ على إثره بعد نصف ساعة بالضبط عند الثانية صباحًا ووجدتُ عندئذٍ صعوبةً بالغةً في فتح عيني، وانتبهتُ إلى أن قسمات وجهي ظلت متصلبةً لفترةٍ قصيرةٍ عند استيقاظي كما شعرتُ بخدرٍ ملحوظٍ يسري على جانبي فكي الأسفل، وكل هذا كان مصحوبًا بتسارعٍ في ضربات القلب وآلام في الصدر وإجهاد شديد في الكتفين.. لقد مررتُ بأزماتٍ قلبيةٍ قبل ذلك عدة مرات، ولكنني لم أشعر بمثل عنف هذه الأزمة أبدًا.

ولذلك فإنني عندما تعرضتُ لها اختلطت عندي الأمور وحرتُ في معرفة كنه هذه الأزمة.. هل هي حقًّا أزمة قلبية أم أنها بوادر جلطة بالمخ، ولهذا لم أستطع أن أتعامل معها في البداية.. شعرتُ بالإعياء وتخيلت أنني سوف أدخل في غيبويةٍ بعد قليل لم أستطع بالطبع أن أقدر كم من الوقت أستطيع الاحتفاظ فيه بالوعي، ولكنني ظننتُ أنه قليل نظرت إلى رفاقي بالزنزانة فوجدتهم ما زالوا نيامًا، لقد صارت الساعة في حدود الثانية والنصف صباحًا أي أنه قد انقضت نصف ساعة منذ بدأت هذه الأزمة سألتُ نفسي ماذا أستطيع أن أفعل فيما تبقى لي من وقتٍ مجهولٍ أحتفظ فيه بحواسي، راودتني نفسي أن أوقظ أحدًا من إخواني السبعة الذين ينامون معي في الزنزانة ليخف إلى نجدتي، ولكنني سرعان ما صرفتُ هذا الخاطر كراهة الإزعاج، خاصةً أننا في جوف الليل ولو تنبَّه أي واحدٍ منهم لما يحدث لي فإنه حتمًا سيُوقظ الآخرين وسيؤدي هذا إلى إشاعةِ جوٍّ من الانزعاج بل والفزع؛ لأن بابَ الزنزانة موصدٌ من الخارج وليس من السهل فتحه إلا بعد حين.

ولن يقتصر القلق والانزعاج في هذه الحالة على زنزانتنا، بل إن نداءاتهم سوف تصل إلى بقية الزنازين، وسوف يستيقظ كل النائمين.. تخيلتُ كم يكون مؤلمًا على النفس أن تشعر بالخطر يتهدد عزيزًا لديها أمام عينيها ولا تملك له دفعًا أو ردًّا ونظرًا لما أعرف كيف تُدار الأمور داخل السجن فإنني شعرتُ أنه حتى لو طلبتُ النجدةَ فلن تصل قبل ساعات، وعند هذا الحد من التفكير حزمتُ أمري أن أتعامل مع هذه الأزمة وحدي دون إزعاجٍ لإخواني حتى يُفتح باب الزنزانة في الصباح أو يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.

أخذتُ أُعيد التفكير من جديدٍ فيما أستطيع أن أفعله، رأيتُ أن أُسجِّل كل الأعراض التي انتابتني على ورقةٍ أمامي حتى إذا غبتُ عن الوعي يراها مَن يأتيني فيعرف المقدمات.. قررتُ أن آخذ حبةً تحت اللسان لتوسيع الشرايين وقلتُ لنفسي إنه مهما كان نوع الجلطة فإنها ستُفيد بلا شك.

وواتتني فكرة كتابة رسالة قصيرة فيما يبدو لي من لحظاتٍ باقيةٍ تكون أشبه برسالة الوداع لإخواني الذين سُجنت معهم وتشاركنا في الآلام والآمال ولأهلي وزوجي وأحبائي الذين أحببتهم، وأنا على وشك فراقهم كما غلب على ظني، كنتُ أفكر عندما شرعت في كتابة هذه الرسالة في كلماتٍ جامعةٍ موجزة حتى أستطيع إكمالها بسرعة، دعوت فيها بالخير لي ولكل مَن سار على طريق الله القويم وجال خاطري مَن ناصبونا العداء واستباحوا حريتنا وأموالنا وأجرموا في حقنا دون وجه حقٍّ وضربوا بمصالح الأمة والعباد عرض الحائط في سبيل تحقيق مطامع شخصية وأهواء فردية، وتساءلتُ: هل أدعو الله أن ينتقم منهم ويجعلهم عبرةً لمَن يعتبر؟ توقفت برهةً ورأيتني لم أملك نفسي إلا أن دعوت الله لهم بالهداية، لقد تغلبت رغبتي في هدايتهم ونفع المجتمع بهم على رغبتي الشخصية في الانتقام والثأر منهم.

لم تزد الرسالة التي كتبتها عن بضعةِ أسطر خططتُ كلماتها لتعبر فقط عن سيل الخواطر التي واتتني بأقل كلماتٍ ممكنة؛ وكانت قلة الكلمات أمرًا طبيعيًّا لأنني لم أكن قادرًا على الاسترسال في الكتابة من جانب، كما أن حالتي الذهنية في مثل هذا الموقف لم تسمح لي بالاستمرار في الكتابة، لقد كان الموقف مهيبًا ليس من السهل تصويره أو رسم معالمه أو الإحاطة به، ومن الغريب أنه رغم ما ذكرت عن هذا الموقف فقد كنتُ على الجانب الآخر أشعر بطمأنينةٍ عجيبةٍ قد بعثها الله في وجداني وأنا جالسٌ أواجه ما قد يعبر بي إلى عالمٍ آخر.

شارفت الساعة الثالثة صباحًا وأنا جالسٌ على سريري أرقب تطورات الحالة وجدت أن الأمور لم تزدد سوءًا فحمدت الله عز وجل على هذه النعمة التي أنعم بها عليَّ وحفظ بها نفسي.. رأيتُ إخواني وقد بدأوا يستيقظون واحدًا تلو الآخر ليقفوا بين يدي الله رُكعًا وسجدًا في صلواتٍ في جوف الليل البهيم؛ فضلتُ أن أتركهم يصلون لربهم فالأمر ما زال لا يحتاج إلى تدخلهم أو إزعاجهم.

لحظات قليلة انقضت بعد ذلك ثم أحسستُ أن الأزمة بدأت تنقشع بالتدرج ورويدًا رويدًا انطلق أذان الفجر يدوي بين جنباتِ العنبر بصوتٍ عزبٍ رخيم وجدت أنني بحمد الله ما زلتُ على قيد الحياة، بل وأحسستُ بتحسنٍ ملحوظٍ ينطلق داخل كياني لقد أستطعتُ عندئذٍ أن أنهض من جلستي التي كنتُ عليها بل وأمكن لي أن أُصلي الفجر مع إخواني، ولم أتمالك نفسي من أن يلهج لساني بالحمد والثناء والشكر لله عز وجل.. لقد أحسست أنني كنت في رحلةٍ إلى المجهول


د/عصام حشيش.

Tuesday, July 3, 2007

"آهٍ لو تحكمنا يا عمر"





دقت الساعة معلنةً العاشرةَ مساءً حين كنت أشاهد برنامجًا تلفازيًّا عن حقوق الإنسان في مصر الحبيبة، مر بخاطري طيف أستاذي المعتقل د. عصام حشيش حين وقف يومًا يحاضرنا بهندسة القاهرة، مرت الذكريات برأسي تباعًا كأني أراه مبتسمًا يشرح العلوم المستعصية في سلاسةٍ تأبى أن تزور الكثير من زملائه، كأني أسمعه بأدبه الجم يحدثنا عن أنه يفضل استقلال البنات بنصف المدرج الأقرب للباب حتى إذ شبَّ حريقٌ كان خروجهن أسهل، كأني به في تلك الليلة من شهر رمضان وقد مدَّ لطائفةٍ من زملائه مائدة إفطار عامرة، التفتُّ لواحد منهم أسأله فيم كل هذا؟ فيرد هذا هو عصام حشيش الكريم الذي يُنفق عطاء مَن لا يخشى فقرًا ولا حاجة.

تتابعت الذكريات بذهني فاستلقيتُ على السرير وأنا أتثاءب وأسقط نائمًا، وما هي إلا ثوانٍ حتى أيقظني صوت طرقات على باب منزلي وإذا بالساعة الواحدة بعد منتصف الليل، قفزت من سريري على عجلٍ لأفتح الباب وإذا هم رجال أمير المؤمنين، تراهم فينشرح صدرك وتشعر بالأمان والطمأنينة إذ إنَّ هناك مَن يسهر على حراستك في تلك البلاد السعيدة، فتحت مبتسمًا "يا مرحبًا بزوار الفجر"، تقدَّم كبيرهم معتذرًا: "يا أخي الكريم آسف جدًّا لإيقاظك في هذه الساعة، أمير المؤمنين عمر يحتاجك في استشارةٍ تخص الأمة، وأنت كعهدنا بك لا تنزعج أن نوقظك ما دامت نصرة الأمة والدين تناديك".

تقبلته باسمًا سعيدًا، داعيًا الجميع للاستراحة وشرب الشاي في غرفة الجلوس ريثما أرتدي ثيابي، أبوا جميعًا أن يدخلوا منزلاً في مثل هذا الوقت وأهله نيام تأدبًا بآداب ديننا الحنيف، كرروا الاعتذار مرارًا عن المجيء في مثل هذا الوقت وجاد أحدهم بكيس حلوى للصغير الذي أيقظه صوتي لا أصواتهم، فروا إلى أسفل المبنى ينتظرون في سيارتهم ولحقتُ بهم خلال دقائق وقد أحضرتُ حاسوبي المحمول وبعض الطعام لأضيفهم به، استأذنوا في الانصراف ليستكملوا نشاطهم في حفظ استتباب الأمن- المستقر بطبيعة الحال- ما دمت أعرف الطريق إلى دار الأمير التي لا يغلق بابها في وجه محتاجٍ أبدًا.

لكن قبل أن أنطلق تقدَّم أحدهم "سأقود عنك سيارتك فقد انتهت دورتي في الحراسة لهذه الليلة"، حاولت أن أعفيه من تلك المهمة ليعود إلى داره ويرتاح فقال: "لا عليك، سأصلي قيام الليل في مسجد المخابرات المركزية حتى تنتهي من لقائك بالأمير ثم أعود بك إلى الدار لعلي أكون من ﴿الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾.. انطلقنا وراح هو يدندن بصوته الشجي خلال الطريق: نحن جند الله أبطال الفدا- إن دعانا الحق لبينا الندا.

وصلنا بعد دقائق معدودة إلى هدفنا فقفزت إلى سمو الأمير المنتظر على الباب محتضنًا إياه، استأذن هو من محادثه على الهاتف المحمول ليحييني ثم عاد إليه قائلاً: "لا بأس إذًا، سأحدث خازن بيت المال لنزيد من الطعام المخصص لزوار بيت المقدس ما دام الحجاج المسيحيون قد زاد عددهم هذا العام، وعليك بانتقاء أطايب الطعام لهم يا أخي رجاء" ضحك قبل أن ينهي المحادثة ويلتفت إليَّ قائلاً: "كان هذا أخانا أمير بلاد الشام وكنت أضحك حين حدثني أن الشياطين أرادوا يومًا اختبار مواد كيميائية جديدة فأطعموا أبناءَهم موادَّ ملوثةً بالمبيدات المسرطنة" قلتُ له ضاحكًا "وفي روايةٍ أخرى يا سمو الأمير: أراد زعيمهم إبليس أن يقلل من تعداد سكان بلاده كيلا ينازعه الغوغاء ملكه وجبروته، فأغرق جماعات منهم في سفن خربة وخطط لتتصادم قطاراته العطبة فيتخلص من طائفةٍ أخرى، ثم أبدع فأحرق البعض الآخر خلال تجمعهم في أحد المسارح، وحين ضاق بالقوم ذرعًا أرسل فيهم ناقلات دم ملوثة وأعمل فيهم السموم وأمراض الكبد الوبائية، أرأيت كيف اهتدى لتلك الحيل الشيطانية التي لا يتفتق عنها إلا ذهنٌ لعينٌ جهنمي مثله"، ضحكنا ونحن ندعو المولى عز وجل ﴿رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا﴾ ونرجوه أن يبارك في رجال هذه الأمة أطهار الذمة والسريرة، أطهار اليد الذين يحرصون أن يذهب كل قرش لمستحقه خشية المولى لا خشية سيف الأمير أو طمعًا في ذهبه.

لحظات من الصمت قطعها الأمير بقوله: "في الواقع نحتاجك في مهمةٍ صعبةٍ يا أخي، لقد طوَّر علماء غرناطة وقرطبة آلة للانتقال عبر الزمن، وقد أردنا أن يجربها ثقة من رجالنا وبعد أخذ الشورى بين مجلس حكماء الأمة أخذًا بقوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ استقرَّ الأمر أن نُرسلك إلى المستقبل إن وافقت"، قبل أن أسأل بادرني موضحًا "الأمر بسيط جدًّا ولن يستغرق دقائق، مهمتك فقط أن تستكشف أوضاع الأمة في اللحظة التي ستصل إليها وتنظر كيف تُحكم الأمة هل بجبرية أم بملك عضود أم بخلافة راشدة على منهاج النبوة، لا أكثر من ذلك "، قفز رجاله يضعوني في بدلةٍ خاصةٍ ويرشدوني إلى طريقي تُشيعني ابتسامات الرضا من أمير المؤمنيـن الذي لحق بي على باب الآلة ليعطيني منظارًا مكبرًا قائلاً: "عله يعينك في استكشاف الأوضاع عن بُعد دون أن تضطر للتعامل المباشر، أستودع الله دينك وأماناتك وخواتيم أعمالك، لا تقلق يا أخي ستعود بخيرٍ إن شاء الله"، ابتسمتُ قائلاً: "خيرًا إن شاء الله، أليس الله بكافٍ عبده؟".

ثانيةٌ واحدةٌ مرت أو هكذا شعرت حين أغلق الباب قبل أن تتوقف الآلة وأخرج منها حائرًا، نظرت في الطريق أتفرس في معالمه لعلي أتعرف على الدرب إلى موقف السيارات أو المسجد المركزي حيث يصلي رجال الأمير فما تعرفتُ على شيء ولا بدت لي أي ملامح معروفة، وفجأةً رأيتُ رجال الأمن قادمين من أول الشارع، تهللت أساريري وحثثت الخطا نحوهم ليرشدوني إلى قصر الأمير، لكن لسبب ما بدأت أشعر بالانقباض مع اقترابهم مني وكلما اقتربت منهم زاد انقباضي حتى وجدتهم يجرون نحوي صائحين "إنه ملتحٍ ويبدو ملتزمًا، امسك أصولي"، صاح مارٌ بي وهو يجري "إنهم يأتمرون بك ليحبسوك فاجر يا أخي إني لك من الناصحين"، أطلقت ساقيَّ للريح خلفه والعجب العجاب يتملكني فمنذ متى صار الالتزام جريمةً في دولة الحق والقوة والحرية التي أرسى أركانها ودعائمها أمير المؤمنين عمر، راوغنا في عدة شوارع جانبية حتى أفلتنا من ملاحقة وحوش الفزع الباغية التي كانت تلاحقنا بلا جريمةٍ اقترفناها.

وقفت ألتقط أنفاسي لثوانٍ ثم أمسكت بتلابيب مرافقي صائحًا: "ماذا حدث؟ وأين أمير المؤمنين وعسكر الحق من هذا العبث الإجرامي؟"، نظر الرجلُ إليَّ مندهشًا وهو يقول "عمَّ تتحدث يا أخي الفاضل؟ هل هبطت علينا من كوكب المريخ؟ لقد ولَّى عهد الأئمة الراشدين ونحن نعيش في ظلمٍ متفشٍ منذ عقود، تحكمنا قوانين جائرة ظالمة باغية، وطغمة من فاسدي الذمم كل همهم هو سرقة قوت الشعب، لا يتورعون عن قهر المظلومين بيانًا، وأكل الأموال عدوانًا، وابتغاء رضا الغرب بسخط المولى عز وجل جهارًا نهارًا، ولا يُبَث فينا إلا إعلام فاسد ماجن لا هدفَ له إلا سحق كل القيم والأخلاق والمبادئ التي نقرأ عنها في كتب التاريخ فقط، وكل قوات الأمن والشرطة والجيش مُسَخرة لخدمة الحاكم الظالم وسحق مَن يتجرأ من الشعب المسكين على استحضار حديث الحبيب المصطفى الذي صححه الشيخ الألباني: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" وما بقي لنا من أئمة الهدى والتقى والرشاد أحد، فهم إما خلف القضبان أو قد فاحت رائحة دمائهم الزكية الطاهرة، فالحرية عندهم هي حرية الانحلال والخلاعة لا حريةَ الدين والعقيدة، إنهم يا أخي قد طاردوا الأصولي وكرموا المنافق الوصولي".

دارت بي الأرض وكدت أسقط وأنا أحاول أن أستوعب ما يقوله محدثي، لم يمهلني لأسأله متى وكيف حدث هذا بل جذبني لنرتقي إلى سطح أحد المباني وهناك رأيت لوحةً عملاقةً تحجب ضوء القمر في مدخل الشارع "مرحبًا بك في دولة الظلم والفساد والاستبداد، كن خانعًا تافهًا أو تابعًا حقيرًا تعيش معنا مستورًا".. لم أستطع أن أصدق ما تراه عيناي، نظرت من فوق السطح إلى نوافذ المباني فرأيتها كلها تتشح بالسواد ولوحات قماشية تمتد بعرض الشوارع تئن بما تحمله من كلمات: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)﴾ (البروج)، "يا جنود الله صبرًا.. إن بعد العسر يسرًا"، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)﴾ (المجادلة)، طال انتظاري فمتى يعود أبي؟"، صوت صياح وصراخ جعلني أنظر من الأعلى لأرى شيخًا وقورًا ذا هيبة يقتاده جيشٌ من العسكر إلى مصفحاتهم الصدئة تشيعهم دعوات أهله وجيرانه بالهلاك وعذاب الله وهو يشير إليهم هادئًا مؤازرًا وأبناؤه يحتسبون ويحوقلون ويهتفون "سيزول ليل الظالمين وليل بغي المجرم، سيزول بالنور الظلام.. ظلام عهد آثم".

طلبت من رفيقي أن يدلني على مقر قيادة الأمن أو العسس إن كان ما زال لهم وجود، نظر إليَّ بحدة ثم قال "ليسوا أمنًا بل فزعًا ورعبًا يا أخي، سأقربك إليه لكن لن أصحبك يا أخي فأنت تبدو صاحب مغامرات وجرأة ولم تذق مثلي سياط البسيوني أو صلاح نصر أو شمس بدران أو زكي بدر أو حسن الألفي أو حتى حبيب العادلي أو ربما لم تقرأ يوميات محمد يوسف هواش عن مذبحة ليمان طرة"، نظرتُ إليه مستفهمًا فواصل "يا أخي دع عنك هذا التظاهر، أتريد أن تخبرني أنك لم تسمع عن فؤاد علام يتنصل من دماء السنانيري، أو تزعم يا أخا الإسلام أن دماء سيد قطب صاحب الظلال ومعالم في الطريق لم تحرك ساكنًا لديك؟ هل تدعي أن دماء القاضي الشهيد عبد القادر عودة لم تسل دموعك؟ أوما اهتزت أوصالك لمشهد دماء الإمام المجدد حسن البنا تسيل في ظلمة الليل منهيةً صفحةً ناصعةً سطَّرها بيديه إحياءً لمجد هذه الأمة؟".

نظرت إليه وقد تمكَّن مني الذهول تمامًا وهو يتمتم بين دموعه بقول الحق تبارك وتعالى ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42)﴾ (إبراهيم) بادر بجذبي من يدي لنقفز من سطحٍ إلى سطح، حتى وصلنا إلى سطحٍ يبعد مسافةً طويلةً عن مبنى أسودٍ كئيبٍ، أخرجتُ منظاري والتفتُّ لرفيق الكفاح فإذا به يستودعني الله ويطلق للريح ساقيه، عدت أصوب منظاري نحو إحدى غرف ذاك المبنى الأســود، لم أصدق عيني وأنا أرى مجلات المجتمع مرتمية هنا وهناك مع أعدادٍ من جريدتي "آفاق عربية" و"الشعب" وأخريات من الرائدات في عالم الصحافة الإسلامية، وبينها يرقد الأستاذ أحمد عز الدين يئن من شدة آلام الانزلاق الغضروفي وهو يدعو لوالدته بالرحمة والفردوس الأعلى من الجنة، فركتُ عيني عدة مرات وأنا أتحول للغرفة المجاورة فأرى الدكتور محمد علي بشر ملتحفًا كوفيته يقيم ليله في خشوعٍ كما اعتاد وكأني أسمع صوته الندي يتلو من آي الذكر الحكيم ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)﴾ (الأنبياء) فيحلق بنا في عالم الجنان الروحاني، واصلت المشاهدة لأرى العلماء الأفاضل الدكتور محمود أبو زيد والدكتور خالد عودة يتواصون بالصبر على الأذى في سبيل الله فشعرتُ بالأسف لنظامٍ لا يُوقِّر علماءه وبالأسى لسلبية وقصر نظر زملائهم المدرسين وطلابهم الذين ما بذلوا جهدًا كافيًا حتى يعود الحق السليب لأهله.

حولت المنظار لأرى سامي الحاج وقد استبدَّ به الجوع إثر إضرابه عن الطعام في محبسه الذي طال مصحوبًا بصمت المجتمع الدولي ذي المكيالين، عدت بالمنظار لأرى الدكتور عبد الرحمن الشميري وصحبه الإصلاحيين بأم القرى وقد طال انتظار أبنائهم شهورًا لرؤيتهم، رأيت أيمن نور وطلعت السادات وممدوح إسماعيل كل يئن في زنزانته، رأيت الدكتور عزيز الدويك والشيخ جميل الأمين والشيخ أنور العولقي وأنور إبراهيم وسامي العريان والأستاذ يوسف ندا والشيخ توفيق الواعي والشيخ فتحي الخولي، إما في الغياهب مغيبون وإما بالقوات ملاحقون وإما عن الديار مبعدون، رأيت دماء طاهرة لأكرم زهيري ومسعد قطب وعبد الحارث مدني وطارق غنام ويوسف طلعت ومحمد فرغلي وهنداوي دوير، رأيت ثلاثي التبتون رحيل أحمد وشفيق رسول وعاصف إقبال وإخوانهم المسلمين في جوانتنامو يشكون إلى الله ظلم الطغاة وصمت العباد.

وصلت إلى الغرفة الأخيرة لأرى أستاذي الفاضل د. عصام الدين عبد الحليم حشيش يرفل في قيده الظالم ويخطو كعهدنا به هادئًا وقورًا لا يذل إلا لخالقه الكريم، يتقدم ليحاكمه عسكر فساد وإفساد حسبما أمر طواغيت البغي والعدوان، فيقف أمامهم جلاده شامخًا، رابط الجأش، ثابت الحجة، قوي البيان، فصيح المقال، هممت أن أصيح بعسكر الظلم ليتعرفوا على بعض فضله فيطلقوه حين هوى على كتفي لوح من الحجر صاحبه صوت كأنه زئير أسد جائع وجد فريسةً ثمينةً، التفتُّ فزعًا وإذا هم عساكر الطاغوت الأكبر يجرون نحوي ليؤازروا زميلهم الذين أتاهم بي كصيد ثمين ويعلو جعيرهم متداخلاً، وما كان ذاك اللوح إلا كف عملاقة جذبتني وارتفعت ثانية لتهم بتغيير ملامح وجهي وأنا أصيح مستنجدًا...

"استيقظ .. استيقظ يا ابني حرام عليك كفاية" فتحت عيني مع شهقة حادة وإذا بأخي يقول "ماذا أصابك يا أخي؟ تصيح وأنت نائم، خير اللهم اجعله "خير"؟ هيا اغسل وجهك سريعًا لنلحق بنشرات الفضائيات، هناك ملف خاص الليلة عن المحاكمات العسكرية وصراع الحق والباطل في بلادنا الغالية التي تئن تحت وطأة حكم الطواغيت الظالم". التفتُّ إليه أود أن أسأله عن الطريق إلى قصر أمير المؤمنين لكن انتبهت أني عدت إلى واقعي المرير فتنهدت وأنا أقول "آهٍ لو تحكمنا يا عمر".
------------
* أحمد علي


نقلا عن موقع إخوان أون لين